إنها الثامنة صباحا، لم يعد يفصل أيوب على مكتبه إلا بضعة أمتار، لحظتها تعترض سبيله فتاة في مقتبل العمر، لم يعتد على رؤيتها من قبل، فتبادره مستفسرة.
_ صباح الخير…أهذا مكتب تسجيل الطلبة المتدربين؟
يحملق فيها الرجل بشيء من التعجب، متفحصا وجهها الملائكي المبتسم ذو العينين الكبيرتين السوداويتين. ربعة القد، دقيقة الخصر، ساحرة حقا و فاتنة مثيرة، تذكره بأمل…أمل خطيبته
وبينما هو على حاله، يسترجع لذكريات أليمة لسنين خلت تعاود الفتاة سؤالها.
_سيدي أين مكاتب الادارة؟
حينها يستفيق من غفوته و يرد عليها في ذهول :
آه…أسعدت صباحا…الإدارة…الإدارة لم تفتح أبوابها بعد، لكن مصلحتنا في الخدمة، آنسة…؟
- هدى. هدى غفران من هيئة الطيران، متدربة سنة أولى.
- تشرفنا…أيوب، أيوب صبري. سنين مهارة بمصلحة الإشارة.
يتجاذبان الحديث، فتطلعه بأنها من مدينة مجاورة، من سعيدة بعثت بها الهيئة للتدرج في ميدان تخصصها،وقد شجعتها شخصيته المتفتحة، تستأذن منه لمهاتفة ذويها من مكتبه.
وبعد أن أعلنت عن وصولها تأخذ مجلسها بمكتبه و ما هي آلا دقائق و تفتح الإدارة أبوابها و قد يكونا قد تعرفا على بعضاهما البعض.
فرح أيوب بصداقتها التي توطدت من أول لقاء، أنسته متاعب السنين آلتي مضت و أرجعت له البسمة المفقودة و تمنى أن تكون بداية لعهد جديد.
تبتسم هدى له، تشكره على الخدمة التي قدمها لها و تبلغه بأنه كان لطيفا معها و تستأذن بالانصراف.
يجلس أيوب على الكرسي تائها، حالما غير مباليا بما يدور حوله. مذا أصابه؟ كانت هدى في تصوره توأما لأمل و يتساءل كيف استطاعت بمرورها الخاطف أن تفعل به ما تفعله العواصف أثناء لاجتياح.
ها هي العاصفة تعصف بكيانه فيحس بشيء غريب ينتابه و ينبعث لهيبه من أحشائه، لم يحس بهذا الإحساس منذ عشر سنوات، لقد ملأ حياته بالعمل و النوم لا غير. و ها هو اليوم يفكر بشيء أخر، قلبا لا ينازعه فيه أحد، مثل مكتبه هذا، قلبا يغمره بالدفء و يملأ حياته بالأمل و الإخلاص ، ويمرر شريط حياته خلال السنوات العشر، وبسرعة فائقة إذ ليس فيها شيء يذكر اللهم إلا الأيام التي قضاها بمستشفى سيدي الشحمي للمجاذيب نتيجة الصدمةالتي تعرض لها من جراء حزنه العميق على أمل و هي توارى التراب.
ومرت بعد ذالك سنين كان لا بد لها أن تمر.. وحدثت خلالها أحداث كان لا بد لها أن تحدث دون أن يحس بطعم الحياة إلي أن جاءت هدى و معها العاصفة، وما أن مر يوم حتى يزيد تعلقه بها، وكلما صادفها تحييه و تبتسم.
تبتسم له كرجل و يتعلق بها كوطن ، يريد أن يتأكد من أنها امرأة تقاسمه الحلم لكي يفصح لها عن أشياء ضل يحتفظ بها لنفسه، يريد أن يرتمي في أحضانها لكن يرتبك ، يخونه لسانه و تغيب عنه الكلمات، من أين سيبدأ؟ مذا سيقول؟ كيف سيحدثها عن عواطفه؟
كيف يتمكن من مجاملتها و توطيد العلاقة أكثر بينهما؟ لكنه يكتفي بمساءلتها عن أحوالها وعن أشياء هامشية.
يحدثها عن ا لشتاء و لياليه المظلمة و عن كل شيء إلا عن عواطفها نحوه.
و تمضى كالعاصفة مخلفة ما تخلفه أي عاصفة أثناء الاجتياح و يصبح كالقشة بقلب الدوامة ، يتكرر المشهد مرات على مدى أشهر دون أن يبوح لها عن مكنونات صدره خوفا من فقدان صداقتها و يتسأل :
_ ماذا لو عرفت؟
و مع مرور الأيام نفذ صبره ولم يعد يحتمل أكثر مما هو فيه يهتدي لمصارحتها كتابيا لعله يتجاوز عقبة ضلت تحجب عنه اليقين.
ها هو اليوم ينتظرها كالمعتاد عند مدخل الرواق بكل عزم و ما هي إلا لحظات حتى تلوح في الأفق علامات هبوب العاصفة، فتوقد الحريقة في دمه و تبعث القشعريرة اللذيذة في جسده لكنه يصر على الصمود لكي يسلمها ظرف استسلامه لها.
تبتسم له كالمعتاد وتسأله.
- ما بك يا أيوب؟
- لا شيء انه خطاب لك بمناسبة عيد رأس السنة؟
تستلم منه الظرف وهي في منتهى السعادة.
_ لكن لم تحل بعد السنة الجديدة.
_ أود ان لا يسبقني أحد.
احمر وجهها من الخجل وأيقنت أن الرجل جدي في مسعاه.
هنئته بدورها بالمناسبة و تمضى للمدرج بخطى متثاقلة والضباب يلفها شيئا فشئا حتى اختفت عن نظره .تمر الأيام ثقيلة في غيابها، ينتظر الرد عن رسالته لكنه لم يأت.
وعندما التقاها بعد أيام لم تتغير. تبقى التحية و الابتسامة ترافقها كأن شيئا لم يحدث وهو الذي كان يزعم أنه أذاب جبل الجليد الذي كان يفصلهما عن بعضهما البعض.
كانت كالعاصفة في دمارها.
تتوالى الخطابات دون رد رغم تسليمها المباشرفيتسأل .
_انه لأمر غريب لماذا هذا السكوت؟ هل السكوت من علامات الرضا؟ فلم تستلم الخطابات بابتسامة عريضة دون رد؟ هل هي بلهاء حتى لهذا الحد؟ هل تفعل ذالك من باب الرأفة؟
بعد تفكير عميق يقرر أيوب المواجهة و ينتظرها كالمعتاد و هو يردد :
_سأوقف العاصفة، سأركبها إن لم تحملني فلتكسرني…
و بينما هو على حاله، اذ يلفت انتباهه قرع أقدام وراءه فيلتفت فيتفاجأ بسؤالها.
- أيوب ما بك؟ هل أنت مريض؟
_ لماذا هل يبدو لك ذلك؟
_ سمعتك تخا طب نفسك.
- لا أنا بخير، أنا في انتظارك أريد أن..
_ تريد ماذا ؟ تكلم.
_أريد أن أوجه لك دعوة ليوم الاثنين لكي مزور متحف المدينة معا، ما رأيك؟
و بدون تردد تبتسم كالعادة وتقبل الدعوة بدون شريطة أن تكون نهاية الأسبوع.
لم تسع أيوب الأرض من الفرحة، لقد أستطاع الوقوف أمام العاصفة و ها هو يوجهها للوجهة التي أختارها.
مرت الأيام الفاصلة وكأنها الأبدية وعندما حل اليوم الموعود غابت هدى وتساءل أيوب.
_هل أصابها مكروه؟ لماذا غابت ؟ هل غيرت رأيها؟ ما الذي جرى؟..
ينقضيان يومين كاملين، و حين يلتقي بها يستفسرها عن سبب اختفائها تجيبه بكلام مبهم،
وقالت :
- لنبقى أصدقاء و باسم الاختلاف تستمر الحياة.
لحظتها أحس أيوب بأن شيئا ما قد حصل، و قد كانت مفاجأته كبيرة يوم أن رآها ذات مساء تركب سيارة فاخرة فيتبع آثارها حتى تدخل بصحبة رجل طاعن في السن من ذوى البطون المنتفخة لأحد النوادي الليلية، يسترق النظر خلسة من وراء الزجاج، يراها تشعل سيجارة (مارلبورو) يصفق مرافقها للنادل ليطلبا شيئا…
و أستيقض أيوب من أحلامه، اذ أيقن أنها تخفى عنه أشياء، و كانت رسائله تقبل سوى من باب العطف لا غير وأيقن بأن الحب أخذ و عطاء، و هذ ما لم يلمسه فيها.انه الواقع الذي لم يرد أن يعترف به، فيتسأل للمرة الأولى في حياته.
_ ما هو الواقع ؟ و من صنعه ؟ و لماذا حين يتجسد تتبدد الأحلام؟
الهزيمة لم تترك لأيوب منفذا سوى الهرب من الواقع، فيطلب تحويله من عمله لتمنراست بأقصى الضحراء بحثا عن الهدوء و نسيان الواقع المر. و تشاء الصدف و هو في طريقه للمطار أن يرى هدى تتأبط صديقا جديدا و حين تدير رأسها تتلاقى النظرات، فيعاوده مشهد أمل و هي تودعه الوداع الأخير، و هي تنزف دما على سرير المستشفى لتغادر هذا العالم، لكن هدى لتمتطى سيارة فاخرة من نوع ( الشبح ) لثرى أخر لتنطلق بها إلى الجحيم الراقي، انه لعالم سحري لا مكانة فيه للبسطاء و لا للظعفاء، بنيت مبادئه على المال و القوة.
تشده الحيرة و يتساءل :
_ما دام هذا العالم السحري من صنع الأثرياء، فلماذا يقحم فيه البسطاء ليكونوا من أول ضحاياه ؟ فما دخل هدى به ؟ ألم تعد من عجينتى ؟ هل أدخلت إليه مرغمة أم طواعية ؟ هل للبؤس دخل في ذالك ؟
عالمهم هذا كل شيء يباع و يشترى فيه، هذا لعجيب حقا أحمر بأنواره هدوئه غضب، لياليه صخب تدب فيه الحركة إلا ليلا انه عالما للخفافيش.
يصل أيوب المطار كالطير الجريح، مكسور الجناحان، وراح يبحث عن ( شجاعة الشجعان ) التي
تنقصه والتي ترفعها جريدة الرأي شعارا.
وهو على متن الطائرة في طريقه للجنوب الكبير راح برتل مع الرعد ووميض البرق أغنية مرتجلة من تأليفه:
_عندما مشيت وراء هذا الاسم
لم أكن أعرف أنني العابر الذي شرب و اكتوى
من الحسن نبيذا من اللهب
و جعلت منه شهيدا، فارق أرضه
و صار بطلا رمزيا للنسيان يجر ملحمته الكبرى…
بعد سفر دام أربع ساعات، تحط الطائرة بمطار (أقنار) يلتحق أيوب بمنصب عمله الجديد، تاركا همومه لوهران عاشقة البحر لعلها تحكيها للأجيال ، يطوى صفحة كئيبة ويفتح أخرى ناصعة البياض حيث يذوب في صمت الهقار ، و يجعل من إقامته المحاذية لقمة ( الأسكريم ) معبدا له و يملئ أوقات فراغه بالصلوات و التأمل في فساحة الصحراء و عظمة الخالق في الإبداع ، ويتخذ من الطبيعة العذراء عشيقة له لأنها أحن و أوفى من بنى البشر. و من حين لآخر تهب الرياح الموسمية و تصاحبها العواصف و حين تهدأ، تظهر للوجود كثبان رملية شكلت، فتزيد من روعة المكان و تزيد من إيمان أيوب بربه و عظمته، فيرتمي في نسوك بين أحضان العالم الروحاني تاركا العالم المادي للماديين، انه الشوق الذي لا يعرف له مسكنا، عالم ملائكي الجناح، مثالي الطقوس فيه العبادة الأبدية، و التي هي أقوى من العواصف حتى و إن حلت واحدة، يستقبلها بثبات وتهليل
اذ يقول دائما :
_ ذا الطريق المحتوم المرموز بك أيتها العا صفة، غيرك ما كان للقدر لزوم، لولاك ما كان السبيل إلى هدى الدمية الصامتة، البرق و الصاعقة…))
… وتحترق الأيام في تسلسل ممل و رهيب، و تبقى الذكريات عالقة بالأذهان شاهدة على المآسي و الأحزان. يختفي أيوب عن الأنظار و من على مسرح الأحداث، كأن الأرض ابتلعته و تسأل هدى عن سبب اختفائه المفاجئ و تسأل نفسها هل أصابه مكروها؟ لماذااختفى فينقبض قلبها و يمتلكها الحزن، و تتذكر آخر جملة أسمعتها إياه (لنبقى أصدقاء و باسم الاختلاف تستمر الحياة ) و تتساءل مجددا ( هل كانت هذه الأحرف كافية لاختفائه ؟)) إنها لم تره مند أن صادفته للمرة الأخيرة قرب المطار، وهى تغادر ملهى (ليالي الأنس ) رفقة سرحان حينها تلاقت النظرات دون أن ينطق كليهما بكلمة، أحس أيوب حينئذ بغربة و هي تتجاهله و قد فعلت دلك عن قصد، لقد كانت مرغمة أنه سر لا يعلمه سواها، كان سرحان رأس الخيط الذي تمسكت به ليدخلها لإمبراطورية الصمت، لتدخلها من أبوابها الضيقة، لم ترد التضحية بمجهود سبعة أشهر من العمل الدءوب في لحظة ضعف، خفق قلبها عند رؤية أيوب، أرادت أن تستوقفه و تستفسر عن و جهته في هذا الظلام الحالك، لكنها تراجعت و كانت عاطفة الواجب أقوى من أي عاطفة، و راحت راكبة سيارة ( الشبح ) ليقلع سرحان بسرعة جنونية تسبق الريح، و يبقى أيوب مصلوبا مذهولا بمكانه من هول ما رأى، كان قلبه يتقطع حسرة، و ها هو طوفان الأسى و الشك يجتاحه ليجرفه إلى حيث لا يدرى.
تمر أسابيع و يطول غياب أيوب و يصبح مقلقا. لم تتمالك هدى نفسها و تلجأ ذات يوم إلى مصلحة الإشارة للاستفسار عنه بغية معرفة أخباره، قيل لها بأنه حول إلى تمنراست نزولا عند رغبته لاعتبارات صحية، لم تعد صحته تحتمل الأجواء الرطبة و الملوثة للمدينة، لقد ترك المصلحة مند شهرين تقريبا، شكرت محدثها و تذكرت يوم تلاقى نظراتهما و قالت في نفسها (( لقد كان يوم اختفائه…)) و خرجت للشارع طلبت سيارة أجرة فركبتها و أعلنت عن وجهتها ((اجهة البحر، ساحة المغرب العربي.)) انزوت في مقعدها في صمت و انشغلت في تفكير عميق استنتجت بأن أيوب لم يكن سوى الهرب من الواقع، و الذي صنعه لنفسه فمن سمة الجزائري التأويل و عدم الرضا بالهزيمة، فمن طبيعة دمه الساخن أنه يثور لأتفه الأمور فكل شيئ لديه مقدس أحيانا يرتكب حماقات باسم الشرف و الشرف بريء منه و نادر ما يستسلم و يقبل بالهزيمة و يختفي، فأيوب يعتبر من القلة القليلة التي تفضل الانسحاب و الاختفاء،
لقد كان حكيما في قراره مما زاد إعجاب هدى و تعلقها به أكثر، تنهدت بعمق كا دت أن تنفجر و تمتمت و قالت :
(( آه لو يدرى…آه لو يعرف الحقيقة)).حقيقة مادا؟ حقيقة العاصفة التي عصفت به و اجتاحته أم حقيقة دمه الساخن الذي لا يسمح له بالهزيمة و رغم دالك سمح له بالهرب و الاختفاء؟
تتوقف الطاكسى، تنزل هدى و تجوب ساحة المغرب العربي الذي يغطيها الضباب بخطى ثقيلة قاصدة قاعة الشاي (( غر ناطة )) أين وجدت أنور مسئولها المباشر في انتظارها جالسا بعيدا عن الأنظار، لقد جرت العادة أن يلتقيا في مثل هده الأمكنة كلما دعت الضرورة لذالك، جاءت لتقدم له آخر المستجدات و آخر التقارير عن العملية الكبيرة لقد استطاعت بذكائها الحاد أن تحصل على أدق المعلومات من سرحان دون أن تدفع شيئا، و دون أن يتفطن لطبيعة عملها انه مغرما بها.
جلست و الحزن باديا عليها حتى خيل لأنور بأن أمرها قد يكون انكشف لكنها تطمئنه و تنبئه بأنها سوى مرهقة، و أن العملية ستتم الليلة تحت جناح الظلام، كما هو مخطط لها و بعد موافاته بالشروحات الأزمة تنصحه باستقدام قوة إضافية و تنهض لمغادرة المكان.
هنا تنتهي مهمة المفتشة هدى التي استقدمت من مدينة مجاورة خصيصا لهذه المهمة، لبست لباس الشرعية كطالبة للسماح لها بالإقامة بين الطلبة دون أن تلفت الانتباه و باشرت المهمة التي أوكلت لها في سرية تامة لتقودها مجريات الأحداث إلى عالم الملاهي و الوسط المتعفن الذي سكنته الخفافيش و الذي ظن أيوب ذات ليلة أنه ابتلعها، لقد استطاعت سحب البساط من تحت الأرجل، و لم تبق لها ألا سويعات لتوجيه ضربة قاضية لهذا الإخطبوط الفتاك الذي لا يرحم، لقد استطاعت استنطاق الصمت و هز عرش الإمبراطورية التي اعتمدت على المال و القوة.
تصل لإقامتها فترتمي سريرها في نوم عميق، حيث رأت فيما يرى النائم بأنها طارت في الأفق تقودها حمامة بيضاء عبرت الصحراء و استقر بها المقام بمدينة حمراء تحيط بها بساتين خضراء، حينما استفاقت من نومها كانت الساعة تشير إلى الثالثة زوالا. فالتحقت فورا بمكتب عميد مصالح الأمن القضائي، كما هو متفق عليه في أعقاب كل عملية فأستقبلها بابتسامة عريضة و حفاوة كبيرة لم تشهدها من قبل، بسط أمامها جريدة مسائية، حيث كتب على صدرها بالبند العريض ما يليّ ّّ ألقت مصالح الشرطة القضائية البارحة القبض على مجموعة من الأفراد ينتمون إلى شبكة تهريب دولية بالمدينة، حيث كانت البضاعة المهربة مخبأة بزورق مهمل كان راسيا بجانب رصيف ميناءا لمسافرين، و قد تبين فيما بعد أن الشبكة تنشط على الشريط الحدودي، و تعتبر شبكة عالمية من حيث الوسائل و التنظيم، و الفظل يعود في دلك إلى المفتشة هدى غفران و الفريق المنتمية أليه بقيادة الظابط أنور، و لا تزال لحد الساعة هذه القضية تستقطب الرأي العام المحلى)).
حين أتمت قراءة الخبر، أحتفضت بالجريدة و كمكافأة لها قال عميد الشرطة ّقررت مديرية الأمن مكافآتك بأسبوعين عطلة مدفوعة التكاليف و لك اختيار المكان الذي تودين قضائها به.)) لحظتها خطر ببالها أيوب و بدون إطالة تردّ :
ّ- تمنراست…يقال بأنها مدينة سياحية و هده فرصة للتعرف عليها و على أناسها الطيبين ّ
ّ- هذا مدهش، لم أكن أتوقع هدا الاختيار خاصة و نحن على أبواب الحر، ليكن ما أردت، فسنقوم بجميع الإجراءات.ّ
في صباح اليوم الموالي حزمت أمتعتها و تسلمت تذاكر الطائرة و الإقامة و تلتحق بمدينتها لتمكث يومان بين أسرتها و من هناك تعرج على المطار لتطير لتمنراست للالتحاق بأيوب، و بعد سفر ممل و شاق تحط بمطار ّ أقنار ّ أين يعم الهدوء و السكينة كأنه الهدوء الذي يسبق العاصفة.
في الطرف الأخر من المدينة جلس أيوب بإقامته على الكرسي بالقرب من النافدة كالمعتاد، فادا بالرياح تشتد سرعتها و تصبح غربية الاتجاه فيخيم عليه الحزن، لأنه كلما عصفت من هذا الاتجاه إلا و جاءت بالعواصف فيطلق العنان لمخيلته ليجوب العرق الكبير و الصحراء بأكملها في ثوان معدودة ليجد نفسه بحي الصديقية، ثم حي الصخور و يعرج على واجهة البحر و نوار سه البيضاء فتطل عليه من أعلى جبل المرجاجو ّ سنتا كروز ّ الشامخ في و جه الدهر منذ رحيل الأسبان، و بينما هو على حاله إذ يشعر بيد تلمس كتفه في حنان فيدير رأسه، فادا بفتاة واقفة فوق رأسه فخيل
له للوهلة الأولى بأنه يحلم و بأنه ملاك على صفة أمل خطيبته المتوفاة نزل إليه من السماء أتت به العاصفة لينقده مما هو عليه، و قبل أن يتفوه بأي كلمة تبادره قائلة ّ لقد تعبت من البحث عنك، أخيرا دلوني على إقامتك زملائك بالمصلحة، وجدت الباب مفتوحا، طرقت عدة مرات لكن لم يجبن أحد فدخلت، حطت حقائبها، ومدت له بيدها مصافحة و قالت ّ ألا تأمر لي بالجلوس ؟ ّ قال ّ اجلسي أيتها العاصفة ّ فابتسمت بابتسامتها المعهودة و قالت كلاما مبهما كعادتها ّ تجرد طواعية من سيفك أنا العاطفة ّ بعد صمت رهيب دام دقائق أمطرها بأسئلة مست بشرفها و جرحت كرامتها انتفضت و صرخت في وجهه ثائرة . فتحت حقيبتها و رمت له ببطاقتها المهنية و الجريدة المسائية التي نشرت تفاصيل القضية التي أسالت وديانا من الحبر .
بعد ما تعرف على الحقيقة تجسد أمامه الواقع و تساءل ما هو الواقع؟ و من صنعه؟ و لماذا حين يتجسد تتبدد الأحلام؟ و هذه المرة يجيب على نفسه فيستنتج بأن الواقع هو الحقيقة المطلقة صنعته الظروف و حين يتجسد قد تتبدد الأوهام و تتجسد الأحلام جحضت عيناه و اغرورقت بالدموع . نهض من مكانه احتراما و إجلالا لها و تأسف عما صدر منه و طلب منها الغفران و قال ّ الآن أنى لا أرضى بلذة العيش إلا بجوارك و لا أرضى بنور السعادة إلا في ابتسامتك الهادئة المرتسمة على شفتيك . أفضل يوم أقضيه بجانبك على جميع ملذات الدنيا و مسرات الوجود فأنت رائعة، ذكية، وطنية، قوية و رحيمة، أنت الوفاء و الشرف، أنت العفة نفسها، خذي سيفي أيتها العاصفة, أنت العاطفة، و أنا في هذا النور الساطع تحملني أجنحة السعادة تنتشلني من ظلمتي و عزلتي إني…ّ
فتقاطعه و تقول ّ لا تكمل لمست ذلك من خلال رسالتك التي لا زلت احتفظ بها و كنت أحس بذلك، لكن عاطفة الواجب كانت تقف عائقا بيني و بينك و كانت الأقوى , لكن لا يمنعني ذلك من أن أحفظ لك ما كنت تكتبه من أشعار هيا أسمع ّ يا نسمة البحر و نفحة الريحان و يا فراشة الربيع فوق الغدران. عودني غنجك تهجين الأحزان. و أكتظم أشواقي داخل الوجدان لأصطنع البسمة فوق الشفتان و أتحمل ما لا يتحمله أي إنسان لاكتسب عظمة ليوث وهران.. ّ
لحظتها يضمها لصدره كاد أن يخنقها و يرد عليها قائلا ّ لكنك تجهلين ما كنت أود أن تسمعيه، و أنا في طريقي لهنا هيا أسمعي :
ّ لقنني حبك فاتنتي كيف أن أكتم الأسرار و كيف أحتفض لك بأحلى التذكار و أشق طريقي بين اللهب و النار غريبا في طبعي لأنتحر مثل الأطيار…ّ
انقضت مهلة من الوقت و تهدأ العاصفة، يخرجان متعانقان في حرارة لا مثيل لها يجلسان فوق ربوة قريبة يتأملان منظر غروب الشمس و تتراء لهما في الأفق قافلة من الجمال، يركبها رجال من الطوارق و يسمعهم الريح من حين لأخر أنغام التندي المتقطعة المنبعثة من هناك…
_ صباح الخير…أهذا مكتب تسجيل الطلبة المتدربين؟
يحملق فيها الرجل بشيء من التعجب، متفحصا وجهها الملائكي المبتسم ذو العينين الكبيرتين السوداويتين. ربعة القد، دقيقة الخصر، ساحرة حقا و فاتنة مثيرة، تذكره بأمل…أمل خطيبته
وبينما هو على حاله، يسترجع لذكريات أليمة لسنين خلت تعاود الفتاة سؤالها.
_سيدي أين مكاتب الادارة؟
حينها يستفيق من غفوته و يرد عليها في ذهول :
آه…أسعدت صباحا…الإدارة…الإدارة لم تفتح أبوابها بعد، لكن مصلحتنا في الخدمة، آنسة…؟
- هدى. هدى غفران من هيئة الطيران، متدربة سنة أولى.
- تشرفنا…أيوب، أيوب صبري. سنين مهارة بمصلحة الإشارة.
يتجاذبان الحديث، فتطلعه بأنها من مدينة مجاورة، من سعيدة بعثت بها الهيئة للتدرج في ميدان تخصصها،وقد شجعتها شخصيته المتفتحة، تستأذن منه لمهاتفة ذويها من مكتبه.
وبعد أن أعلنت عن وصولها تأخذ مجلسها بمكتبه و ما هي آلا دقائق و تفتح الإدارة أبوابها و قد يكونا قد تعرفا على بعضاهما البعض.
فرح أيوب بصداقتها التي توطدت من أول لقاء، أنسته متاعب السنين آلتي مضت و أرجعت له البسمة المفقودة و تمنى أن تكون بداية لعهد جديد.
تبتسم هدى له، تشكره على الخدمة التي قدمها لها و تبلغه بأنه كان لطيفا معها و تستأذن بالانصراف.
يجلس أيوب على الكرسي تائها، حالما غير مباليا بما يدور حوله. مذا أصابه؟ كانت هدى في تصوره توأما لأمل و يتساءل كيف استطاعت بمرورها الخاطف أن تفعل به ما تفعله العواصف أثناء لاجتياح.
ها هي العاصفة تعصف بكيانه فيحس بشيء غريب ينتابه و ينبعث لهيبه من أحشائه، لم يحس بهذا الإحساس منذ عشر سنوات، لقد ملأ حياته بالعمل و النوم لا غير. و ها هو اليوم يفكر بشيء أخر، قلبا لا ينازعه فيه أحد، مثل مكتبه هذا، قلبا يغمره بالدفء و يملأ حياته بالأمل و الإخلاص ، ويمرر شريط حياته خلال السنوات العشر، وبسرعة فائقة إذ ليس فيها شيء يذكر اللهم إلا الأيام التي قضاها بمستشفى سيدي الشحمي للمجاذيب نتيجة الصدمةالتي تعرض لها من جراء حزنه العميق على أمل و هي توارى التراب.
ومرت بعد ذالك سنين كان لا بد لها أن تمر.. وحدثت خلالها أحداث كان لا بد لها أن تحدث دون أن يحس بطعم الحياة إلي أن جاءت هدى و معها العاصفة، وما أن مر يوم حتى يزيد تعلقه بها، وكلما صادفها تحييه و تبتسم.
تبتسم له كرجل و يتعلق بها كوطن ، يريد أن يتأكد من أنها امرأة تقاسمه الحلم لكي يفصح لها عن أشياء ضل يحتفظ بها لنفسه، يريد أن يرتمي في أحضانها لكن يرتبك ، يخونه لسانه و تغيب عنه الكلمات، من أين سيبدأ؟ مذا سيقول؟ كيف سيحدثها عن عواطفه؟
كيف يتمكن من مجاملتها و توطيد العلاقة أكثر بينهما؟ لكنه يكتفي بمساءلتها عن أحوالها وعن أشياء هامشية.
يحدثها عن ا لشتاء و لياليه المظلمة و عن كل شيء إلا عن عواطفها نحوه.
و تمضى كالعاصفة مخلفة ما تخلفه أي عاصفة أثناء الاجتياح و يصبح كالقشة بقلب الدوامة ، يتكرر المشهد مرات على مدى أشهر دون أن يبوح لها عن مكنونات صدره خوفا من فقدان صداقتها و يتسأل :
_ ماذا لو عرفت؟
و مع مرور الأيام نفذ صبره ولم يعد يحتمل أكثر مما هو فيه يهتدي لمصارحتها كتابيا لعله يتجاوز عقبة ضلت تحجب عنه اليقين.
ها هو اليوم ينتظرها كالمعتاد عند مدخل الرواق بكل عزم و ما هي إلا لحظات حتى تلوح في الأفق علامات هبوب العاصفة، فتوقد الحريقة في دمه و تبعث القشعريرة اللذيذة في جسده لكنه يصر على الصمود لكي يسلمها ظرف استسلامه لها.
تبتسم له كالمعتاد وتسأله.
- ما بك يا أيوب؟
- لا شيء انه خطاب لك بمناسبة عيد رأس السنة؟
تستلم منه الظرف وهي في منتهى السعادة.
_ لكن لم تحل بعد السنة الجديدة.
_ أود ان لا يسبقني أحد.
احمر وجهها من الخجل وأيقنت أن الرجل جدي في مسعاه.
هنئته بدورها بالمناسبة و تمضى للمدرج بخطى متثاقلة والضباب يلفها شيئا فشئا حتى اختفت عن نظره .تمر الأيام ثقيلة في غيابها، ينتظر الرد عن رسالته لكنه لم يأت.
وعندما التقاها بعد أيام لم تتغير. تبقى التحية و الابتسامة ترافقها كأن شيئا لم يحدث وهو الذي كان يزعم أنه أذاب جبل الجليد الذي كان يفصلهما عن بعضهما البعض.
كانت كالعاصفة في دمارها.
تتوالى الخطابات دون رد رغم تسليمها المباشرفيتسأل .
_انه لأمر غريب لماذا هذا السكوت؟ هل السكوت من علامات الرضا؟ فلم تستلم الخطابات بابتسامة عريضة دون رد؟ هل هي بلهاء حتى لهذا الحد؟ هل تفعل ذالك من باب الرأفة؟
بعد تفكير عميق يقرر أيوب المواجهة و ينتظرها كالمعتاد و هو يردد :
_سأوقف العاصفة، سأركبها إن لم تحملني فلتكسرني…
و بينما هو على حاله، اذ يلفت انتباهه قرع أقدام وراءه فيلتفت فيتفاجأ بسؤالها.
- أيوب ما بك؟ هل أنت مريض؟
_ لماذا هل يبدو لك ذلك؟
_ سمعتك تخا طب نفسك.
- لا أنا بخير، أنا في انتظارك أريد أن..
_ تريد ماذا ؟ تكلم.
_أريد أن أوجه لك دعوة ليوم الاثنين لكي مزور متحف المدينة معا، ما رأيك؟
و بدون تردد تبتسم كالعادة وتقبل الدعوة بدون شريطة أن تكون نهاية الأسبوع.
لم تسع أيوب الأرض من الفرحة، لقد أستطاع الوقوف أمام العاصفة و ها هو يوجهها للوجهة التي أختارها.
مرت الأيام الفاصلة وكأنها الأبدية وعندما حل اليوم الموعود غابت هدى وتساءل أيوب.
_هل أصابها مكروه؟ لماذا غابت ؟ هل غيرت رأيها؟ ما الذي جرى؟..
ينقضيان يومين كاملين، و حين يلتقي بها يستفسرها عن سبب اختفائها تجيبه بكلام مبهم،
وقالت :
- لنبقى أصدقاء و باسم الاختلاف تستمر الحياة.
لحظتها أحس أيوب بأن شيئا ما قد حصل، و قد كانت مفاجأته كبيرة يوم أن رآها ذات مساء تركب سيارة فاخرة فيتبع آثارها حتى تدخل بصحبة رجل طاعن في السن من ذوى البطون المنتفخة لأحد النوادي الليلية، يسترق النظر خلسة من وراء الزجاج، يراها تشعل سيجارة (مارلبورو) يصفق مرافقها للنادل ليطلبا شيئا…
و أستيقض أيوب من أحلامه، اذ أيقن أنها تخفى عنه أشياء، و كانت رسائله تقبل سوى من باب العطف لا غير وأيقن بأن الحب أخذ و عطاء، و هذ ما لم يلمسه فيها.انه الواقع الذي لم يرد أن يعترف به، فيتسأل للمرة الأولى في حياته.
_ ما هو الواقع ؟ و من صنعه ؟ و لماذا حين يتجسد تتبدد الأحلام؟
الهزيمة لم تترك لأيوب منفذا سوى الهرب من الواقع، فيطلب تحويله من عمله لتمنراست بأقصى الضحراء بحثا عن الهدوء و نسيان الواقع المر. و تشاء الصدف و هو في طريقه للمطار أن يرى هدى تتأبط صديقا جديدا و حين تدير رأسها تتلاقى النظرات، فيعاوده مشهد أمل و هي تودعه الوداع الأخير، و هي تنزف دما على سرير المستشفى لتغادر هذا العالم، لكن هدى لتمتطى سيارة فاخرة من نوع ( الشبح ) لثرى أخر لتنطلق بها إلى الجحيم الراقي، انه لعالم سحري لا مكانة فيه للبسطاء و لا للظعفاء، بنيت مبادئه على المال و القوة.
تشده الحيرة و يتساءل :
_ما دام هذا العالم السحري من صنع الأثرياء، فلماذا يقحم فيه البسطاء ليكونوا من أول ضحاياه ؟ فما دخل هدى به ؟ ألم تعد من عجينتى ؟ هل أدخلت إليه مرغمة أم طواعية ؟ هل للبؤس دخل في ذالك ؟
عالمهم هذا كل شيء يباع و يشترى فيه، هذا لعجيب حقا أحمر بأنواره هدوئه غضب، لياليه صخب تدب فيه الحركة إلا ليلا انه عالما للخفافيش.
يصل أيوب المطار كالطير الجريح، مكسور الجناحان، وراح يبحث عن ( شجاعة الشجعان ) التي
تنقصه والتي ترفعها جريدة الرأي شعارا.
وهو على متن الطائرة في طريقه للجنوب الكبير راح برتل مع الرعد ووميض البرق أغنية مرتجلة من تأليفه:
_عندما مشيت وراء هذا الاسم
لم أكن أعرف أنني العابر الذي شرب و اكتوى
من الحسن نبيذا من اللهب
و جعلت منه شهيدا، فارق أرضه
و صار بطلا رمزيا للنسيان يجر ملحمته الكبرى…
بعد سفر دام أربع ساعات، تحط الطائرة بمطار (أقنار) يلتحق أيوب بمنصب عمله الجديد، تاركا همومه لوهران عاشقة البحر لعلها تحكيها للأجيال ، يطوى صفحة كئيبة ويفتح أخرى ناصعة البياض حيث يذوب في صمت الهقار ، و يجعل من إقامته المحاذية لقمة ( الأسكريم ) معبدا له و يملئ أوقات فراغه بالصلوات و التأمل في فساحة الصحراء و عظمة الخالق في الإبداع ، ويتخذ من الطبيعة العذراء عشيقة له لأنها أحن و أوفى من بنى البشر. و من حين لآخر تهب الرياح الموسمية و تصاحبها العواصف و حين تهدأ، تظهر للوجود كثبان رملية شكلت، فتزيد من روعة المكان و تزيد من إيمان أيوب بربه و عظمته، فيرتمي في نسوك بين أحضان العالم الروحاني تاركا العالم المادي للماديين، انه الشوق الذي لا يعرف له مسكنا، عالم ملائكي الجناح، مثالي الطقوس فيه العبادة الأبدية، و التي هي أقوى من العواصف حتى و إن حلت واحدة، يستقبلها بثبات وتهليل
اذ يقول دائما :
_ ذا الطريق المحتوم المرموز بك أيتها العا صفة، غيرك ما كان للقدر لزوم، لولاك ما كان السبيل إلى هدى الدمية الصامتة، البرق و الصاعقة…))
… وتحترق الأيام في تسلسل ممل و رهيب، و تبقى الذكريات عالقة بالأذهان شاهدة على المآسي و الأحزان. يختفي أيوب عن الأنظار و من على مسرح الأحداث، كأن الأرض ابتلعته و تسأل هدى عن سبب اختفائه المفاجئ و تسأل نفسها هل أصابه مكروها؟ لماذااختفى فينقبض قلبها و يمتلكها الحزن، و تتذكر آخر جملة أسمعتها إياه (لنبقى أصدقاء و باسم الاختلاف تستمر الحياة ) و تتساءل مجددا ( هل كانت هذه الأحرف كافية لاختفائه ؟)) إنها لم تره مند أن صادفته للمرة الأخيرة قرب المطار، وهى تغادر ملهى (ليالي الأنس ) رفقة سرحان حينها تلاقت النظرات دون أن ينطق كليهما بكلمة، أحس أيوب حينئذ بغربة و هي تتجاهله و قد فعلت دلك عن قصد، لقد كانت مرغمة أنه سر لا يعلمه سواها، كان سرحان رأس الخيط الذي تمسكت به ليدخلها لإمبراطورية الصمت، لتدخلها من أبوابها الضيقة، لم ترد التضحية بمجهود سبعة أشهر من العمل الدءوب في لحظة ضعف، خفق قلبها عند رؤية أيوب، أرادت أن تستوقفه و تستفسر عن و جهته في هذا الظلام الحالك، لكنها تراجعت و كانت عاطفة الواجب أقوى من أي عاطفة، و راحت راكبة سيارة ( الشبح ) ليقلع سرحان بسرعة جنونية تسبق الريح، و يبقى أيوب مصلوبا مذهولا بمكانه من هول ما رأى، كان قلبه يتقطع حسرة، و ها هو طوفان الأسى و الشك يجتاحه ليجرفه إلى حيث لا يدرى.
تمر أسابيع و يطول غياب أيوب و يصبح مقلقا. لم تتمالك هدى نفسها و تلجأ ذات يوم إلى مصلحة الإشارة للاستفسار عنه بغية معرفة أخباره، قيل لها بأنه حول إلى تمنراست نزولا عند رغبته لاعتبارات صحية، لم تعد صحته تحتمل الأجواء الرطبة و الملوثة للمدينة، لقد ترك المصلحة مند شهرين تقريبا، شكرت محدثها و تذكرت يوم تلاقى نظراتهما و قالت في نفسها (( لقد كان يوم اختفائه…)) و خرجت للشارع طلبت سيارة أجرة فركبتها و أعلنت عن وجهتها ((اجهة البحر، ساحة المغرب العربي.)) انزوت في مقعدها في صمت و انشغلت في تفكير عميق استنتجت بأن أيوب لم يكن سوى الهرب من الواقع، و الذي صنعه لنفسه فمن سمة الجزائري التأويل و عدم الرضا بالهزيمة، فمن طبيعة دمه الساخن أنه يثور لأتفه الأمور فكل شيئ لديه مقدس أحيانا يرتكب حماقات باسم الشرف و الشرف بريء منه و نادر ما يستسلم و يقبل بالهزيمة و يختفي، فأيوب يعتبر من القلة القليلة التي تفضل الانسحاب و الاختفاء،
لقد كان حكيما في قراره مما زاد إعجاب هدى و تعلقها به أكثر، تنهدت بعمق كا دت أن تنفجر و تمتمت و قالت :
(( آه لو يدرى…آه لو يعرف الحقيقة)).حقيقة مادا؟ حقيقة العاصفة التي عصفت به و اجتاحته أم حقيقة دمه الساخن الذي لا يسمح له بالهزيمة و رغم دالك سمح له بالهرب و الاختفاء؟
تتوقف الطاكسى، تنزل هدى و تجوب ساحة المغرب العربي الذي يغطيها الضباب بخطى ثقيلة قاصدة قاعة الشاي (( غر ناطة )) أين وجدت أنور مسئولها المباشر في انتظارها جالسا بعيدا عن الأنظار، لقد جرت العادة أن يلتقيا في مثل هده الأمكنة كلما دعت الضرورة لذالك، جاءت لتقدم له آخر المستجدات و آخر التقارير عن العملية الكبيرة لقد استطاعت بذكائها الحاد أن تحصل على أدق المعلومات من سرحان دون أن تدفع شيئا، و دون أن يتفطن لطبيعة عملها انه مغرما بها.
جلست و الحزن باديا عليها حتى خيل لأنور بأن أمرها قد يكون انكشف لكنها تطمئنه و تنبئه بأنها سوى مرهقة، و أن العملية ستتم الليلة تحت جناح الظلام، كما هو مخطط لها و بعد موافاته بالشروحات الأزمة تنصحه باستقدام قوة إضافية و تنهض لمغادرة المكان.
هنا تنتهي مهمة المفتشة هدى التي استقدمت من مدينة مجاورة خصيصا لهذه المهمة، لبست لباس الشرعية كطالبة للسماح لها بالإقامة بين الطلبة دون أن تلفت الانتباه و باشرت المهمة التي أوكلت لها في سرية تامة لتقودها مجريات الأحداث إلى عالم الملاهي و الوسط المتعفن الذي سكنته الخفافيش و الذي ظن أيوب ذات ليلة أنه ابتلعها، لقد استطاعت سحب البساط من تحت الأرجل، و لم تبق لها ألا سويعات لتوجيه ضربة قاضية لهذا الإخطبوط الفتاك الذي لا يرحم، لقد استطاعت استنطاق الصمت و هز عرش الإمبراطورية التي اعتمدت على المال و القوة.
تصل لإقامتها فترتمي سريرها في نوم عميق، حيث رأت فيما يرى النائم بأنها طارت في الأفق تقودها حمامة بيضاء عبرت الصحراء و استقر بها المقام بمدينة حمراء تحيط بها بساتين خضراء، حينما استفاقت من نومها كانت الساعة تشير إلى الثالثة زوالا. فالتحقت فورا بمكتب عميد مصالح الأمن القضائي، كما هو متفق عليه في أعقاب كل عملية فأستقبلها بابتسامة عريضة و حفاوة كبيرة لم تشهدها من قبل، بسط أمامها جريدة مسائية، حيث كتب على صدرها بالبند العريض ما يليّ ّّ ألقت مصالح الشرطة القضائية البارحة القبض على مجموعة من الأفراد ينتمون إلى شبكة تهريب دولية بالمدينة، حيث كانت البضاعة المهربة مخبأة بزورق مهمل كان راسيا بجانب رصيف ميناءا لمسافرين، و قد تبين فيما بعد أن الشبكة تنشط على الشريط الحدودي، و تعتبر شبكة عالمية من حيث الوسائل و التنظيم، و الفظل يعود في دلك إلى المفتشة هدى غفران و الفريق المنتمية أليه بقيادة الظابط أنور، و لا تزال لحد الساعة هذه القضية تستقطب الرأي العام المحلى)).
حين أتمت قراءة الخبر، أحتفضت بالجريدة و كمكافأة لها قال عميد الشرطة ّقررت مديرية الأمن مكافآتك بأسبوعين عطلة مدفوعة التكاليف و لك اختيار المكان الذي تودين قضائها به.)) لحظتها خطر ببالها أيوب و بدون إطالة تردّ :
ّ- تمنراست…يقال بأنها مدينة سياحية و هده فرصة للتعرف عليها و على أناسها الطيبين ّ
ّ- هذا مدهش، لم أكن أتوقع هدا الاختيار خاصة و نحن على أبواب الحر، ليكن ما أردت، فسنقوم بجميع الإجراءات.ّ
في صباح اليوم الموالي حزمت أمتعتها و تسلمت تذاكر الطائرة و الإقامة و تلتحق بمدينتها لتمكث يومان بين أسرتها و من هناك تعرج على المطار لتطير لتمنراست للالتحاق بأيوب، و بعد سفر ممل و شاق تحط بمطار ّ أقنار ّ أين يعم الهدوء و السكينة كأنه الهدوء الذي يسبق العاصفة.
في الطرف الأخر من المدينة جلس أيوب بإقامته على الكرسي بالقرب من النافدة كالمعتاد، فادا بالرياح تشتد سرعتها و تصبح غربية الاتجاه فيخيم عليه الحزن، لأنه كلما عصفت من هذا الاتجاه إلا و جاءت بالعواصف فيطلق العنان لمخيلته ليجوب العرق الكبير و الصحراء بأكملها في ثوان معدودة ليجد نفسه بحي الصديقية، ثم حي الصخور و يعرج على واجهة البحر و نوار سه البيضاء فتطل عليه من أعلى جبل المرجاجو ّ سنتا كروز ّ الشامخ في و جه الدهر منذ رحيل الأسبان، و بينما هو على حاله إذ يشعر بيد تلمس كتفه في حنان فيدير رأسه، فادا بفتاة واقفة فوق رأسه فخيل
له للوهلة الأولى بأنه يحلم و بأنه ملاك على صفة أمل خطيبته المتوفاة نزل إليه من السماء أتت به العاصفة لينقده مما هو عليه، و قبل أن يتفوه بأي كلمة تبادره قائلة ّ لقد تعبت من البحث عنك، أخيرا دلوني على إقامتك زملائك بالمصلحة، وجدت الباب مفتوحا، طرقت عدة مرات لكن لم يجبن أحد فدخلت، حطت حقائبها، ومدت له بيدها مصافحة و قالت ّ ألا تأمر لي بالجلوس ؟ ّ قال ّ اجلسي أيتها العاصفة ّ فابتسمت بابتسامتها المعهودة و قالت كلاما مبهما كعادتها ّ تجرد طواعية من سيفك أنا العاطفة ّ بعد صمت رهيب دام دقائق أمطرها بأسئلة مست بشرفها و جرحت كرامتها انتفضت و صرخت في وجهه ثائرة . فتحت حقيبتها و رمت له ببطاقتها المهنية و الجريدة المسائية التي نشرت تفاصيل القضية التي أسالت وديانا من الحبر .
بعد ما تعرف على الحقيقة تجسد أمامه الواقع و تساءل ما هو الواقع؟ و من صنعه؟ و لماذا حين يتجسد تتبدد الأحلام؟ و هذه المرة يجيب على نفسه فيستنتج بأن الواقع هو الحقيقة المطلقة صنعته الظروف و حين يتجسد قد تتبدد الأوهام و تتجسد الأحلام جحضت عيناه و اغرورقت بالدموع . نهض من مكانه احتراما و إجلالا لها و تأسف عما صدر منه و طلب منها الغفران و قال ّ الآن أنى لا أرضى بلذة العيش إلا بجوارك و لا أرضى بنور السعادة إلا في ابتسامتك الهادئة المرتسمة على شفتيك . أفضل يوم أقضيه بجانبك على جميع ملذات الدنيا و مسرات الوجود فأنت رائعة، ذكية، وطنية، قوية و رحيمة، أنت الوفاء و الشرف، أنت العفة نفسها، خذي سيفي أيتها العاصفة, أنت العاطفة، و أنا في هذا النور الساطع تحملني أجنحة السعادة تنتشلني من ظلمتي و عزلتي إني…ّ
فتقاطعه و تقول ّ لا تكمل لمست ذلك من خلال رسالتك التي لا زلت احتفظ بها و كنت أحس بذلك، لكن عاطفة الواجب كانت تقف عائقا بيني و بينك و كانت الأقوى , لكن لا يمنعني ذلك من أن أحفظ لك ما كنت تكتبه من أشعار هيا أسمع ّ يا نسمة البحر و نفحة الريحان و يا فراشة الربيع فوق الغدران. عودني غنجك تهجين الأحزان. و أكتظم أشواقي داخل الوجدان لأصطنع البسمة فوق الشفتان و أتحمل ما لا يتحمله أي إنسان لاكتسب عظمة ليوث وهران.. ّ
لحظتها يضمها لصدره كاد أن يخنقها و يرد عليها قائلا ّ لكنك تجهلين ما كنت أود أن تسمعيه، و أنا في طريقي لهنا هيا أسمعي :
ّ لقنني حبك فاتنتي كيف أن أكتم الأسرار و كيف أحتفض لك بأحلى التذكار و أشق طريقي بين اللهب و النار غريبا في طبعي لأنتحر مثل الأطيار…ّ
انقضت مهلة من الوقت و تهدأ العاصفة، يخرجان متعانقان في حرارة لا مثيل لها يجلسان فوق ربوة قريبة يتأملان منظر غروب الشمس و تتراء لهما في الأفق قافلة من الجمال، يركبها رجال من الطوارق و يسمعهم الريح من حين لأخر أنغام التندي المتقطعة المنبعثة من هناك…